بعد نجاتي أردت أن أرمّم الشيء الذي انهدم
كان يمكن حدوث محاولة ثالثة، لكن حميد قرّر بعد نجاته من محاولة الانتحار للمرّة الثانية أن يعود إلى الحياة بالمواجهة لا بالهروب… يقول “بعد الثانية أردت أن أرمّم الشيء الذي انهدم”.
تبدأ حكاية حميد، الشاب العراقي ابن 24 سنة، بضغوط عائلية هائلة على حياته، أرادت التحكّم في اختياراته ومستقبله. واستمرّت تلك الضغوط بمقابلة محاولته الأولى بالاستخفاف وبالمزيد من الضغوط، ما أدّى إلى الهروب من البيت والاندفاع نحو المحاولة الثانية… كل هذا بينما كان عمر حميد 19 سنة فقط.
حاول حميد الانتحار بالسموم، في المرّة الأولى كان في بيته، ففقد الوعي وانتبهت له أسرته التي أسرعت به إلى المستشفى لتُغسل معدته وينجو… رفض بعدها العودة إلى بيت أهله لينتقل إلى بيت أقارب آخرين، حيث لحقت به ضغوط أهله، ليكرّر المحاولة بعد شهرين فقط، حين انتبه لغيابه الجيران الذين أسعفوه إلى المستشفى، فنجى. وهنا تغيّرت القرارات.
يقول حميد “نظر أهلي للأمر باعتباره طيش شباب أو محاولة لجذب الانتباه، لم يروا في المحاولة مشكلة حقيقية أمرّ بها، وحتّى بعد محاولتي الثانية بقي الأمر كذلك بالنسبة لهم؛ مجرّد لفت انتباه”. ويضيف “بين الأولى والثانية، صارت نظرتي للحياة سوداوية، قلق وتوتّر مستمر، قاومت كثيراً، حاولت إيجاد حلّ، حتى أنّني انتقلت للعيش مع أقارب لي، فتبعوني هناك وكررّوا ضغطهم ولومهم لي. الظروف عبرت حدود المقاومة، فاستسلمت، وجبنتُ عن المواجهة، وقرّرت أن أنتحر ثانية”.
خلال الأسبوع الأوّل بعد محاولة الانتحار الثانية، يقول حميد “جلست مع نفسي مطوّلاً، لأخرج بخطتين A و B، حتى إذا ما فشلت واحدة أحاول في الثانية”.
تبدأ مشاكل حميد، كأغلب أبناء وبنات الشرق الأوسط، في تدخّل الأهل ومساعيهم في السيطرة على مجاري حياته المصيريّة… أحبّ فتاة رفض الأهل خطبتها وفرضوا خطبة تناسبهم. كما فرضوا شروطاً على مستقبل الشاب الأكاديمي والمهني، إذ رفضوا رغبته بالتخصّص في اللّغة الإنگليزية وفرضوا أن يدرس الطبّ؛ ولا شيء آخر.
تضمّنت الخطّة A للتعامل مع مستقبل حياته الجديد من بعد النجاة، أن يرسل من يفاوض الأهل على التراخي والتخلّي عن صلابتهم اتّجاه مستقبل حياته. وعقب نجاته من المحاولة الثانية اهتمّت به منظّمة تعنى بقضايا الانتحار في منطقته، فأرسل أشخاصاً يعملون في هذه المنظمة كوساطة حلّ مع الأهل. مع الأسف، فشلت هذه المساعي ورفض الأهل الوساطة.
وبفشل الخطة A نفّذ حميد الخطة B، وهي مواجهة الأهل بنفسه، وإخبارهم بكلّ أفكاره. ويبدو أنّه عرف أنّه ليواصل حياته لا يستطيع البناء على شيء غير محسوم، فالاستمرار معه، يعني جرحاً مفتوحاً تمّ التغاضي عنه بدل مداواته. ويعتقد أنّ تجربته الثانية في الحوار مع أهله أفضل من سابقاتها، لأنّه كان يترك المكان “هارباً حين يحتدم النقاش”. لكن، في هذه المرّة اختار أن يبقى، وأن يقدّم بعض التنازلات.
يقول “دام النقاش نحو ثلاث ساعات. وضعوا شروطهم. واحد فقط من إخوتي دعمني، وانتهى النقاش بقبولهم بجزء ممّ أريد وأكثر ما أرادوه كان. أخبرتهم أنّني سأتخلّى عن فكرة الزواج بالفتاة التي أحبّ” وفي المقابل مُنح حميد حقّ دراسة التخصّص الذي يريد في الجامعة.
يقول حميد “أردت دراسة اللغة الإنگليزية، هي شغفي. عائلتي أرادت أن تتفاخر بي أمام الناس بابنهم في كليّة الطب، هذا همّهم فقط”.
– ها أنت درست اللغة الإنگليزية، أحد أحلامك تحقق، أليس كذلك؟
– صحيح، يقول حميد.
ماذا عن الأيام التي تلت إنهاء مشكلته مع عائلته؟
يقول حميد أنّ ممثلّ المنظّمة التي ذكرها سابقاً وتُتابع قضايا الانتحار، وصل إليه بطريقة ما، وحاول تقديم الدعم النفسي له، ثم دفعه للتواصل مع أخصائيّين نفسيّين عبر جلسات ثنائية بينه وبين كلّ واحد، ليساعدوه في التخلص من أي ميول انتحارية. ومن بعدها بدأ بالعودة لما يحبّ القيام به، وهي أقرب هواياته إلى نفسه، مطالعة الكتب من روايات ودراسات في علم الاجتماع وعلم النفس ومجالات أخرى.
يعمل حميد اليوم متطوّعاً في منظّمة أهليّة، بعد حصوله على شهادة جامعية في اللّغة الإنگليزية. وهي حلمه منذ البداية، ويرى في فشل انتحاره مرتين، فرصة جديدة من الحياة ليعيشها بطريقة أفضل، وهو ما قرّره، مستشهداً بشعر محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”. ويرى أن المنتحر سيخسر بالضرورة رؤية الجانب الحلو من الحياة، الذي غفل هو عنه في عتمة القتامة النفسية.
يقول حميد “من أشوف أو أسمع عن شاب انتحر أنتحر ويّاه داخلياً. كُتبت لي فرصة في الحياة، وأريد أن أعيشها، ربّما لم تُكتب لغيري؛ لأنه استخدم أداة أقوى وكان الموت أسبق إليه، لكنّ لأولئك الذين حاولوا أو يفكرون بالانتحار… أنا عشت هذا الشيء، لذا أعرف تماماً مشاعركم، التفتوا حولكم، حتماً ستجدون شيئاً يستحقّ العيش، أنتم نفسكم طاقة كبيرة وحياة كاملة ومجتمع كامل قد ينشأ باستمراركم في الحياة… لا نريد خسارتكم”.
حميد اسم مستعار بناء على رغبة صاحب العلاقة.
تحرير مؤنس بخاري عن نصّ المقابلة الأصلي للصحفيّة رحمة حجة.